والظاهر أن قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على قوله : (قُلُوبِهِمْ) فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله (غِشاوَةٌ) فيكون : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد ، فإن العرب تقول : استكّ سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.
والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول ، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية ، وتطلقه على الإدراك والعقل ، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان ، وهو المراد هنا ، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.
وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع (قلوبهم) و (أبصارهم) إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس ، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩] وقوله : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر ، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم. وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة ، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك ، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق ، وفي الأنفس التي فيها دلالة ، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.
وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح ، قال الجاحظ في «البيان» (١) : قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا
__________________
(١) انظر : صحيفة ٢٠١ من الجزء الأول طبع بولاق.