ولذلك حسن موقع (لن) الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا ، ولهذا قال سيبويه لا لنفي يفعل ، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالبا لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد ، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد. وكلام الخيل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.
وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين : الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين ، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر. الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها ، ودواعي المعارضة موجودة فيهم ، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم. وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون ، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام ، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة. فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى ، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته ، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية.
و (تَفْعَلُوا) الأول مجزوم بلم لا محالة لأن (إن) الشرطية دخلت على الفعل بعد