نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور ، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال ، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها. والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).
ومعنى (مِنْ تَحْتِهَا) من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :
شجّت بذي شبم من ماء محنية |
|
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول |
البيتين.
وقد أورد صاحب «الكشاف» توجيها لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير (جنات) إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام ، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بال العهدية عهدا تقديريا واختير الثاني تفاديا من كلفة الإضافة وتنبيها على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٩] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحا في كل موضع (١) على أني أرى مذهب
__________________
(١) إشارة إلى التفرقة بين ما جوزه الزمخشري هنا وما منعه من مذهب الكوفيين ، وذلك أن الكوفيين جوزوا جعل اللام عوضا عن المضاف إليه مطلقا ، فعلى مذهبهم يصح أن تقول إذا لقيت زيدا