(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد : ١١ ـ ١٣] إلى أن قال : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] فإن قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) خبر مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يغفل السامع عن أمر آخر عظيم نبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :
جنوح دفاق عندل ثم أفرعت |
|
لها كتفاها في معالى مصعّد (١) |
فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جعفر بن علبة الحارثي (٢) :
لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّة |
|
يرى غمرات الموت ثم يزورها |
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ا ه. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدما في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مرادا منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البون المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١١ ـ ١٣] فإن كونه عتلا وزنيما أسبق في الوجود من كونه همّازا مشاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤]. فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي : «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يحتمل حينئذ التراخي الزمني. ولكن يظهر جواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخرا في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن علبة. قلت وهو إما مجاز
__________________
(١) جنوح بمعنى تميل في سيرها لليمين واليسار لشدة قوتها. والدقاق ـ بكسر الدال ـ المندفقة السير بمعنى السريعة. والعندل : عظيمة الرأس. وأفرعت بمعنى أطيلت كتفاها. في معالي أي في جسم. معالي أي عال مصعد.
(٢) يحتمل أنه أراد بغمرات الموت مواقع القتال وملاحمه التي لا يطمع الداخل فيها بالسلامة فيكون قوله ثم يزورها للمهلة الحقيقية ، ويحتمل أن يريد بالغمرات ما يصيب الكمي من ثخين الجراح وحلول سكرات الموت فيكون قوله ثم يزورها للترتيب الرتبي.