مرسل أو كناية ، فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردودا.
واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخبارا عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) إلى قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٤ ، ٨٥] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين.
فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو الثاني. وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) وقوله في سورة حم السجدة [٩ ـ ١١] : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى أن قال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ). وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى : (بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠]. وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه.
وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بَعْدَ ذلِكَ) أظهر في إفادة التأخر من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي. وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض. وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات