العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم ، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية ، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل ، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة : «لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب ، فلا يتكلّف فيه فوق ما يقدرون عليه» وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني : «ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد ، منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدّ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة إلخ».
وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم ، وأن الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة : الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩]. الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث أن السلف قالوا : إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لا نقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما ما زاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام ، وتحجب عنه أقوام ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه ، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند