ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل ، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها ، وقد قال الواحدي في أول كتابه في «أسباب النزول» : «أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا ، ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد» وقال : «لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل» ا ه.
إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز ، ومنها ما يكون وحده تفسيرا ، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي «صحيح البخاري» أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول : «لئن كان كلّ امرئ فرح بما أتى ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون» يشير إلى قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : ١٨٨] فأجاب ابن عباس قائلا : «إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) [آل عمران : ١٨٧ ، ١٨٨] الآيات».
وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] فما على الرجل شيء ألّا يطوف بهما ، قالت عائشة : كلا ، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ا ه.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام كما سننبهك إليه في أثناء المقدمة العاشرة.