وقد تصفّحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام :
الأول : هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد من البحث عنه للمفسر ، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١١] ، ونحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤] ومثل بعض الآيات التي فيها : (وَمِنَ النَّاسِ) [البقرة : ٨].
والثاني : هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبيّن مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها ، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان ، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦] الآية فقد قال كعب بن عجرة : هي لي خاصة ولكم عامة ، ومثل قول أم سلمة رضياللهعنها للنبي صلىاللهعليهوسلم : يغزو الرجال ولا نغزو فنزل قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها ، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة ، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص ، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث : هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا ، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من «صحيح البخاري» في باب قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] أن عبد الله بن مسعود قال : «قال رسول الله من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا كذا وكذا ، قال فيّ أنزلت ، لي بئر في أرض بن عمّ لي إلخ ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عامّ ، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذا قال : «فيّ أنزلت» بصيغة الحصر.
ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) [التوبة : ٥٨] ، ولذلك قال ابن عباس : كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل