وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلىاللهعليهوسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين : «ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران».
وأما القائلون بأنها منسوخة ، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.
وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة ، وليس أجرا دنيويّا بقرينة المقام وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان ، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده (١).
وإنما جمع الضمير في قوله : (أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مراعاة لما صدق (من) ، وأفرد شرطها أوصلتها مراعاة للفظها. ومما حسّن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع
__________________
(١) ذكرني هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق ، فمرض فمات قبل أن يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى أهله فأخذوه فقال النابغة في ذلك :
أبقيت للعبسي فضلا ونعمة |
|
ومحمدة من باقيات المحامد |
حباء شقيق فوق أحجار قبره |
|
وما كان يحبي قبله قبر وافد |
أتى أهله منه حباء ونعمة |
|
ورب امرئ يسعى لآخر قاعد |