تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) وكان من البعيد قسوتها.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :
أكفرا بعد ردّ الموت عني |
|
وبعد عطائك المائة الرّتاعا |
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ. ووجه استعمال (بعد) في هذا المعنى أنها مجاز في معنى (مع) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى (مع) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي ـ وهو احتمال ضعيف ـ أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) كما سيأتي.
وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :
عليهن شعث عامدون لربهم |
|
فهنّ كأطراف الحنيّ خواشع |
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي بعد مذموما. وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :
في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد |
|
هذا المدام وهاتيك العناقيد |