والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم (آمَنَّا) لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير (بَعْضُهُمْ) راجع إلى ما رجع إليه (لَقُوا) وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير ب (قالُوا آمَنَّا) مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة [البقرة : ١٤].
وقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله :
واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن |
|
يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا |
فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به ، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم ، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين : إن النبي مذكور في التوراة ، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.
والمراد (بِما فَتَحَ اللهُ) إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] والفتاح القاضي بلغة اليمن ، وإما بمعنى البيان والتعليم ، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق ، ومنه قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين ، فالمعنى بما علمكم الله من الدين.
وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.