وقيل : إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم ، وهذا مبني على المجاز التبعي في (تَسْفِكُونَ) و (تُخْرِجُونَ) بعلاقة التسبب.
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليهالسلام من قوله : «لا تقتل ، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب. وعليه فإضافة (ميثاق) إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.
وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في (أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) راجعان لما رجع له ضمير (مِيثاقَكُمْ) وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم. وجملة (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديّن به.
والعطف بثم في قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : (هؤُلاءِ) لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو «أنت أبا جهل» قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو «قال أنا يوسف وهذا أخي» فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : «أنا ذلك» إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة :