صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) على أحد الاحتمالين المتقدمين ، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [البقرة : ٨٦].
وقيل : إن (اشْتَرَوُا) بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى ، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله : (ما عَرَفُوا) وقوله هنا : (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون (اشْتَرَوْا) مع ما تفرع عنه من قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران ، وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.
وجيء بصيغة المضارع في قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) ولم يؤت به على ما يناسب المبيّن وهو ما (اشْتَرَوْا) المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى ، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبيّن بأن يكفروا معبّرا عنه بالماضي بقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا).
وقوله : (بَغْياً) مفعول لأجله علة لقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم ، والبغي هنا مصدر بغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله :
وأظلم خلق الله من بات حاسدا |
|
لمن بات في نعمائه يتقلّب |
وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) متعلق بقوله : (بَغْياً) بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل (بَغْياً) بمعنى حسدا.