ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب ، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣] ليفضي إلى قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى. وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.
ومن الناس من زعم أن قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) عطف على قوله (نِعْمَتِيَ) [البقرة : ١٢٢] أي اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ١٢٣] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيها على مزية هذا الدين.
والابتلاء افتعال من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] ، وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمنا انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل