إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم ، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا. وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول ، وهذا لا شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب ، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة ، ومن هذا القبيل ما في «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ، فقال عمر : إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال : فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : فما تقول؟ قلت : هو أجل رسول الله أعلمه له ، قال (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣] فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.
وإنّك لتمرّ بالآية الواحدة فتتأمّلها وتتدبّرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي ، وقد تتكاثر عليك فلا تلك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك.
فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته ، من اشتراك وحقيقة ومجاز ، وصريح وكناية ، وبديع ، ووصل ، ووقف ، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق ، يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] إذا وقف على (لا رَيْبَ) أو على (فِيهِ). وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] باختلاف المعنى إذا وقف على قوله (قاتَلَ) ، أو على قوله معه (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وكقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) [آل عمران : ٧] باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله (فِي الْعِلْمِ) ، وكقوله تعالى : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] باختلاف ارتباط النداء من قوله : (يا إِبْراهِيمُ) بالتوبيخ بقوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ) ، أو بالوعيد في قوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ).
وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور ، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية ، لأسباب يلوح لي