منها ، أنّ تلك اللغة أوفر اللغات مادة ، وأقلها حروفا ، وأفصحها لهجة ، وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم ، وأوفرها ألفاظا ، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني ، في أقلّ ما يسمح به نظم تلك اللغة ، فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز ؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب.
ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة. واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا. بله إرادة المعاني المكنّى عنها مع المعاني المصرح بها ، وإرادة المعاني المستتبعات (بفتح الباء) من التراكيب المستتبعة (بكسر الباء).
وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان. وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه ، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، محلّ تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا ، سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة ، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، ويعدون ذلك خطبا عظيما.
من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن ، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري (١) يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة. وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة ، كدلالة المجاز والاستعارة.
والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا ، فقال قوم هو من قبيل الحقيقة ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة.
__________________
(١) محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي المتوفى سنة ٤٣٩ ه له كتاب «المعتمد في أصول الفقه».