أيضا أن تكون المقاليد استعارة مكنية ، وهي أيضا استعارة مصرحة للأمر الإلهي التكويني والتسخيري الذي يفيض به على الناس من تلك الذخائر المدّخرة كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه ، ومن أعظم ذلك النبوءة وهدي الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرّأهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلىاللهعليهوسلم بالرسالة دونهم ، واختصاص أتباعه بالهدى فقالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣]. فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق ، ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته ، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر. وكل ذلك موجب توحيده وتصديق رسوله صلىاللهعليهوسلم والاستمساك بعروته كما رشد بذلك أهل الإيمان.
فأما الجملة الرابعة وهي : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها ، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلا للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال. لأن الاستدلال يعود إلى ترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين ، فهذه الجملة تقابل جملة (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) [الزمر : ٦١] المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات ، وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم ، لأن موقعها بعد دلائل الوحدانية وهي آيات دالّة على أن الله واحد يقتضي التنديد عليهم في عدم الاهتداء بها.
ووصف (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات من له مقاليد خزائن الخير فعرّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة.
وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيته التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة.
والإخبار عن الذين كفروا باسم الإشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجل ما وصفوا به قبل اسم الإشارة وهو الكفر بآيات الله. وتوسط ضمير الفصل لإفادة حصر الخسارة فيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة.