صدق آيات الله بقرينة قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دل قوله تعالى عن إبراهيم عليهالسلام : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، على تقدير : في إهلاك قوم لوط ، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإفادة التكرر مثل : سافر وعافاه الله ، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقول الزور من نحو قولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ، (سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، (بِقَوْلِ كاهِنٍ) [الحاقة : ٤٢] ، (بِقَوْلِ شاعِرٍ) [الحاقة : ٤١] لا ينفكون عن ذلك. ومن المجادلة توركهم على الرسولصلىاللهعليهوسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون ، نحو قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] الآيات.
وقد كان لتعلق (فِي) الظرفية بالجدال ، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) موقع عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحوي جميع أصناف الجدال ، وجعل مجرور الحرف نفس الآيات دون تعيين نحو صدقها أو وقوعها أو صنفها ، فكان قوله : (فِي آياتِ اللهِ) جامعا للجدل بأنواعه ولمتعلّق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) [غافر : ٥] فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه.
والمعنى : ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله ، فإن القرآن تحدّاهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعد ما تقدم من التحدّي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلّا فكونهم كفارا معلوم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) دون أن يقول : في آياته ، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن.
وفرع قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) على مضمون (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن المجادلين في آيات الله هم أهل الكفر ، وذلك من شأنه أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظنّ أنهم أمنوا من عذاب الله ، ففرع عليه الجواب (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتا ما ،