تكوينه قبل أن ينفخ فيه الروح ، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة ، فإطلاقه على حالة انعدام الحياة قبل حصولها فيه استعارة ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال (أَمَتَّنَا) في حقيقته ومجازه ، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعا لجريان الاستعارة في المصدر ، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترك في معنييه ، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلا بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحا ، وتقدم في قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في سورة البقرة [٢٨] ، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليبا للموتة الثانية. وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان.
والمراد بالاحياءتين : الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه ، والإحياءة الثانية التي تحصل عند البعث ، وهو في معنى قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨].
وانتصب (اثْنَتَيْنِ) في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف. والتقدير : موتتين اثنتين وإحياءتين اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يقيّد معنى الموت.
وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياة ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياة في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف ، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال ، وقد يتأول بسؤال روح الميت عند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإحياء في هذا العالم ، لم يعتد بها لا سيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم ، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر.
وتفرع قولهم : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) على قولهم : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) اعتبار أن إحدى الإحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة.