الْأَلْبابِ). ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة :
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم |
|
وليس جاهل شيء مثل من علما |
وفعل (يَعْلَمُونَ) في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول. والمعنى : الذين اتصفوا بصفة العلم ، وليس المقصود الذين علموا شيئا معيّنا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه ، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أهل العقول ، والعقل والعلم مترادفان ، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم ، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام ، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر. فتعين أن المعنى : لا يستوي من هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه ، ومن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله. وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أندادا هم الكفار بحكم قوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون ، أي هم أفضل منهم ، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة.
وعدل عن أن يقول : هل يستوي هذا وذاك ، إلى التعبير بالموصول إدماجا للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين ، فالذين يعلمون هم أهل الإيمان ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون ، قال تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤].
وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفة حقّ ، وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة.
هذا ووقع فعل (يَسْتَوِي) في حيّز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء. وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم ، فإنك ما تأملت مقاما اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدت للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل ولنضرب لذلك مثلا بمقامات ستة هي جلّ وظائف الحياة الاجتماعية :
المقام الأول : الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل ،