الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللّات والعزّى ، فأنزل الله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).
وحقا فإن إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذي يبتغون صرفه عن ذلك. ويجوز أن يكون موجها إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن ، فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلىاللهعليهوسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلىاللهعليهوسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصا له الدين ، أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٤ ـ ٩٥] ، أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخّص ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلىاللهعليهوسلم ومماته لله ، أي فلا يفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام [١٦٢ ، ١٦٣] : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فكان قوله : (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) علة ل (أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، فالتقدير : وأمرت بذلك لأن أكون أول المسلمين ، فمتعلّق (أُمِرْتُ) محذوف لدلالة قوله: (أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) عليه. ف (أَوَّلَ) هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإخبار به ، وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلاما بحيث أن ما يقوم به الرسولصلىاللهعليهوسلم من أمور الإسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال : «إني لأتقاكم لله وأعلمكم به».
وعطف (وَأُمِرْتُ) الثاني على (أُمِرْتُ) الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور ، وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله ، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين : أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصا له الدين ، والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أول المسلمين ، أي أمره الله بأن يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصا له الدين ، فجعل وجوده متمحضا للإخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)