(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة [البقرة : ٧٩].
والقاسي : المتصف بالقساوة في الحال ، وحقيقة القساوة : الغلظ والصلابة في الأجسام ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤].
وقسوة القلب : مستعارة لقلة تأثّر العقل بما يسدى إلى صاحبه من المواعظ ونحوها ، ويقابل هذه الاستعارة استعارة اللين لسرعة التأثر بالنصائح ونحوها ، كما سيأتي في قوله تعالى: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) [الزمر : ٢٣].
و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) يجوز أن تكون بمعنى (عن) بتضمين (الْقاسِيَةِ) معنى المعرضة والنافرة ، وقد عدّ مرادف معنى (عن) من معاني (مِنْ) ، واستشهد له في «مغني اللبيب» بهذه الآية وبقوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [ق : ٢٢] ، وفيه نظر ، لإمكان حملهما على معنيين شائعين من معاني (مِنْ) وهما معنى التعليل في الآية الأولى كقولهم : سقاهم من الغيمة ، أي لأجل العطش ، قاله الزمخشري. وجعل المعنى : أن قسوة قلوبهم حصلت فيهم من أجل ذكر الله ، ومعنى الابتداء في الآية الثانية ، أي قست قلوبهم ابتداء من سماع ذكر الله. والمراد بذكر الله القرآن وإضافته إلى الله زيادة تشريف له. والمعنى : أنهم إذا تليت آية اشمأزّوا فتمكن الاشمئزاز منهم فقست قلوبهم.
وحاصل المعنى : أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإسلام بالقرآن فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية.
فكان القرآن أن سبب اطمئنان قلوب المؤمنين قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨]. وكان سببا في قساوة قلوب الكافرين. وسبب ذلك اختلاف القابلية فإن السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلاف القابلية ، وإنما تعرف خصائص الأشياء باعتبار غالب آثارها في غالب المتأثرات ، فذكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر ، فإذا حلّ فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضا مما كانت عليه.
وجملة (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما قبله من الحكم بأن قساوة قلوبهم من أجل أن يذكر الله عندهم يثير في نفس السامع أن يتساءل : كيف كان ذكر الله سبب قساوة قلوبهم؟ فأفيد بأن سبب ذلك هو أنهم متمكنون من الضلالة منغمسون في حمأتها فكان ضلالهم أشدّ من أن يتقشع حين يسمعون ذكر الله.