مثل ما مضى في العدوان (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) في الابتداء بالاعتداء وفي التّجاوز الى الزّيادة في الانتصار ولمّا كان النّفوس غير واقفة على قدر ما يفعل بهم في الاقتصاص بل هي طالبة لان تفعل بالجانى أضعاف ما جنى عليها خوفا من اجتراء الجاني وغيره على التّعدّى عليها وإطفاء لاشتعال غضبها رفع ذلك الخوف واطفأ هذا الاشتعال بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فلا تخافوا من تعدّى عليكم وتسلّوا بالله لا بإمضاء الغضب.
اعلم انّ النّفوس في مراتب التّسليم والانقياد مختلفة ؛ فنفس لا تقوى على الانقياد أصلا فلا تقبل من الله تعالى امرا ولا نهيا وتعتدي على الغير ابتداء وتقتصّ من الجاني عليها بما تقدر عليه ولا كتاب معها ولا خطاب وأمرها موكول الى وقت الممات ، ونفس تقدر على قبول الأمر والنّهى لكنّها لا تقدر على ترك القصاص فرخّصها الله تعالى ونهاها عن التّجاوز عن قدر الجناية وقال لمثلها على سبيل التّلطّف : وان تصبروا فهو خير لكم ، ونفس تقدر على ترك الاقتصاص لكن لا تقدر على الصّفح الّذى هو تطهير القلب عن الحقد على الجاني فأمرها تعالى بكظم الغيظ والعفو عن الجاني ، ونفس تقدر على الصّفح لكن لا تقدر على الإحسان الى الجاني فكلّفها تعالى الصّفح وآخر المراتب القدرة على الإحسان الى الجاني والله يحبّ المحسنين ، فتكليف الله تعالى على قدر وسع النّفوس لا يكلّف الله نفسا الّا وسعها ، وما ورد من المعصومين (ع) صريحا واشارة انّ للايمان درجات فلو حمل صاحب الدّرجة الاولى على الثّانية وصاحب الدّرجة الثّانية على الثّالثة وهكذا هلك ؛ اشارة الى هذا المعنى وانّ لكلّ نفس تكليفا من الله ، وانّ المفتي ينظر الى أحوال الأشخاص ويكلّف بحسب أحوالهم.
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قد مضى بيان مفصّل للإنفاق في اوّل السّورة وقد مرّ قبيل هذا بيان سبيل الله والظّرف لغوا وحال عن فاعل أنفقوا ظرفا مجازيّا أو حقيقيّا والمعنى أنفقوا من أموالكم الدّنيويّة واعراضكم واغراضكم وأبدانكم وقواكم وشهواتكم وغضباتكم وانانيّاتكم وبالجملة من كلّ ما ينسب الى انانيّاتكم في الولاية وكلّما ينتسب الى الولاية من الأعمال القالبيّة والقلبيّة وسبيل الحجّ والجهاد (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) يعنى من غير سبب من الخارج فانّ قوله بأيديكم بمنزلة قولهم فلان فعل بنفسه يعنى من غير واسطة فانّه في الحقيقة لنفى الواسطة لا لاثبات وساطة النّفس (إِلَى التَّهْلُكَةِ) يعنى في الإنفاق بان تنفقوا من كلّما ذكر ما لا يتحمّله النّفس فهو في الحقيقة امر بالاقتصاد في الإنفاق (وَأَحْسِنُوا) امّا تأكيد للاقتصاد المستفاد من الجمع بين الأمر بالإنفاق والنّهى عن إهلاك المال رأسا ، أو امر بإصلاح المال بعد الانتقاص بالإنفاق كأنّه قال : أنفقوا متدرّجين في الإنفاق حتّى لا يبقى لكم كثير ولا قليل ثمّ ارجعوا الى ما وراءكم وأصلحوا ما ضاع منكم بان تأخذوا ممّا أنفقتم في سبيله فيكون اشارة الى مقام البقاء بالله بعد الفناء في الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ولمّا وقع هذا بعد آية التّرخيص في القصاص جاز ان تخصّص الكلمات بالإنفاق من القوّة المقتضية للاقتصاص والنّهى عن ترك القصاص المستلزم للحرج والإحسان الى المقتصّ منه بتخفيف القصاص والى النّفس بإمضاء بعض من غضبها (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بإتمام مناسكهما وترك المحرّمات فيهما ، ونسب الى الباقر (ع) انّه قال تمام الحجّ لقاء الامام (ع) ، وعن الصّادق (ع) إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا لانّ ذلك من تمام الحجّ ، وعلى هذا فيجوز ان يقال : معنى قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أنفقوا ممّا ينسب الى انانيّاتكم في سبيل الحجّ الصورىّ والحجّ المعنوىّ واقتصدوا في الإنفاق حتّى لا تهلكوا أنفسكم قبل استكمالها ، وأتمّوا الحجّ