الذّميمة ولتحقيرهم حتّى يكون أبلغ في الزّجر والرّدع (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) قد مضى قبيل هذا انّ الأعمال القابليّة الّتى هي عبارة عن الحركات والهيئات والاذكار المتجدّدة الّتى لا يجتمع جزء منها مع جزء ولا يبقى جزء منها آنين لا يحكم عليها بالثّبات ولا بالتّجسّم ، وامّا حقائقها الدّاعية الى تلك الأعمال والمكتسبة منها فهي شؤن النّفس الجوهريّة وهي ثابتة متّصفة بالتقدّر والتجسّم والحبط ، وحبط العمل عبارة عن بطلانه وزواله عن صفحة النّفس ، ولمّا كان النّفس ذات جهتين جهة دنيويّة وهي جهة اضافتها الى الكثرات وجهة أخرويّة وهي جهة اضافتها الى عالم التّوحيد والأرواح وإذا صدر عنها عمل جسمانىّ أو نفسانىّ تتكيّف النّفس بجهتيها ؛ وثمرة كيفيّة جهتها الدّنيويّة الخلاص من عذاب الأوصاف الرّذيلة ، وثمرة كيفيّتها الاخرويّة الفراغ من الخلق والتلذّذ بمناجاة الله ، فمن ارتدّ حبطت أعمالهم (فِي الدُّنْيا وَ) من يمت وهو كافر حبطت أعمالهم في (الْآخِرَةِ) هذا على ان يكون الظّرف ظرفا للحبط ، ويجوز ان يكون حالا من أعمالهم والمعنى من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر حبطت أعمالهم حالكونها ثابثة في جهاتهم الدّنيويّة وثابتة في جهاتهم الاخرويّة ، ومن يرتدد منكم عن دينه ويمت على الايمان ثبتت اعماله فيهما (وَأُولئِكَ) كرّر اسم الاشارة البعيدة لما ذكر (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قيل في نزول الآية انّ المسلمين قتلوا في اوّل غزاة غزوها مع المشركين قبل البدر ومن المشركين في اوّل رجب فسأل المشركون محمّدا (ص) عن الشهر الحرام ، وقيل سأل المسلمون عن ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف لتشريف المؤمنين ورفع الجناح عن المسلمين المقاتلين فانّه كما قيل : نزل في السريّة الّتى قاتلوا وقتلوا في اوّل رجب ، وكثر القول فيه وعاب المشركون والمسلمون ذلك كأنّه بعد ما نزل الآية الاولى سأل سائل : هل يكون أجر لهؤلاء المقاتلين في رجب؟ ـ فقال مؤكّدا لكون المخاطبين في الشّكّ من ذلك : انّ الّذين آمنوا اى أسلموا فانّ المراد بالايمان في أمثال المقام هو أحد معاني الإسلام وقد مرّ في اوّل السّورة معاني الإسلام والايمان مفصّلة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) كرّر الموصول اهتماما بشأن الهجرة كأنّها أصل برأسه مثل الايمان ولا سيّما الهجرة عن مقام النّفس الّذى هو دار الشّرك حقيقة الى مقام القلب الّذى هو دار الايمان حقيقة (وَجاهَدُوا) لم يأت بالموصول للاشارة الى التّلازم بين الهجرة والجهاد كأنّهما شيء واحد فانّ الإنسان بعد الإسلام ما لم يهجر الوطن لم يظهر مغايرته للمشركين وما لم يظهر مغايرته لم يكن قتال ومخالفة (فِي سَبِيلِ اللهِ) قد مضى نظيره وأنّه ظرف لغو ظرفيّة مجازيّة أو حقيقيّة ، أو ظرف مستقرّ كذلك (أُولئِكَ) كرّر المبتدأ باسم الاشارة البعيدة للاحضار والتّفخيم (يَرْجُونَ) قد مضى انّ عادة الملوك تأدية الوعد بأدوات التّرجّى وانّ وعد الملوك لا يتخلّف ولو كان بلفظ التّرجّى ووعيدهم كثيرا ما يتخلّف ولو كان بنحو الجزم (رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر مساويهم (رَحِيمٌ) يغشيهم برحمته بعد الغفران (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) استيناف لابداء حكم آخر من احكام الرّسالة (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقرئ كثير بالثاء المثلّثة (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) لمّا أتى بالإثم مفردا وبالمنافع جمعا توهّم انّ نفعهما غالب على إثمهما فرفع ذلك التوهّم بقوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).