الى الدّنيا بوجه والى الآخرة بوجه ولكن يستفاد من كلّ ما ورد في امر الدّنيا وتحصيلها وحفظها انّ المراد منه ليس الّا استكمال الآخرة باستبقاء الدّنيا فشرع لكم الأحكام القالبيّة بحيث اعتبر فيها الدّنيا تقدمة للآخرة وأخذها تقدمة لطرحها والآخرة أصلا ومقصودة لعلّكم تتفكّرون في أمرهما فلا تتعلّقون بالدّنيا ولا تغفلون عن الآخرة ، أو لعلّكم تتفكّرون في دنيا الأحكام وآخرتها يعنى في جهتها الدّنيويّة وجهتها الاخرويّة حتّى تعلموا انّ جهتها الدّنيويّة ليست منظورا إليها الّا مقدّمة لجهتها الاخرويّة ، أو الظرف متعلّق بقوله يبيّن ولعلّكم تتفكّرون جملة معترضة اى يبيّن الله لكم الآيات والأحكام في امر الدّنيا وفي امر الآخرة.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) اى عن امر اليتامى والقيام بأمرهم وأموالهم ومخالطتهم فانّه ليس المقصود السّؤال عن ذوات اليتامى فانّه كما قيل وروى بعد نزول قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ،) وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) اشتدّ ذلك على من كان عنده يتيم فسألوا رسول الله (ص) عن ذلك فقال الله تعالى له (ص) (قُلْ) يا محمّد (إِصْلاحٌ لَهُمْ) بحفظ نفوسهم وتربيتهم وتكميلهم وحفظ أموالهم وتنميتها وتوفيرها (خَيْرٌ) من الإهمال والاعراض حتّى يهلك نفوسهم ويتلف أموالهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) في المسكن والمعاشرة أو في المأكول والمشروب أو في الأموال (فَإِخْوانُكُمْ) في الدّين اى فهم إخوانكم ومن حقّ الأخ على الأخ المخالطة وعدم الفرق بينه وبين نفسه بل ترجيحه على نفسه في حفظ النّفس والمال والأكل والشّرب ، فاحذروا من الخيانة وترجيح أنفسكم عليهم وافسادهم في أنفسهم وأموالهم فان خنتم أو أصلحتم فلكم الجزاء على حسبه (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فلا يعزب شيء عن علمه حتّى لم تجزوا بحسبه وقد ورد السّؤال كثيرا عن امر الأيتام ومخالطتهم والدّخول على من عنده أيتام وأكل الغذاء معهم وخدمة خادم الأيتام لهم وغير ذلك وكانوا يجيبون بما حاصله انّه ان كان فيه صلاح الأيتام فلا بأس والّا فلا ، بل الإنسان على نفسه بصيرة فيعلم قصده ونيّته من المخالطة والدّخول والأكل وغير ذلك (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) في امر الأيتام بعدم التّرخيص في المخالطة والأمر بحفظ أموالهم وأنفسهم مع المداقّة في أمرهما (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يمنعه مانع ممّا يشاء وممّا يحكم (حَكِيمٌ) لا يفعل الّا ما اقتضته الحكمة واستعداد النّفوس واستحقاقها والجملة استيناف بيانىّ تعليل لتلازم الجزاء للشّرط ولرفع المقدم كأنّه قال : لو شاء الله لأعنتكم لأنّه عزيز لا يمنع من مراده ولكنّه لم يشأ لانّه حكيم لا يفعل ما فيه مشقّة الأنفس من غير استحقاق (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) عطف باعتبار المعنى فانّ قوله تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) وقوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) معناه : أصلحوا لهم وخالطوهم نحو مخالطة الاخوة ووجه المناسبة أنّهم كانوا يتكفّلون اليتيمة ويخالطونها في بيوتهم للنّكاح ان كانت ذات مال ، وان لم تكن ذات مال أعرضوا عنها ، وربّما كانت تجتمع عند الرّجل عدّة نساء من اليتامى لم يكن يقوم بحقوقهنّ فقال تعالى بطريق العموم : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) من اليتامى وغيرهن (حَتَّى يُؤْمِنَ) ولا منافاة بين هذه الآية وبين آية إحلال الكتابيّات حتّى يكون إحداهما ناسخة للأخرى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ)