الّذى خلق قبل جملة العوالم الرّوحانيّة باعتبار ربّ النّوع الّذى خلق قبل كلّ المخلوقات أجرى الله حكمه على الكعبة وقال : اوّل بيت وضع للنّاس للّذى ببكّة ومن قال انّ الكبد اوّل نقطة خلقت من بدن الإنسان لانّه منبت النّفس النّباتيّة واحتياج بدن الحيوان ليس اوّلا الّا الى القوى النّباتيّة غفل عن انّ الجنين من اوّل استقراره في الرّحم قد استفاد ضعيفا من كلّ من القوى النّباتيّة الّتى لنفس الامّ وانّه من اوّل استقراره في الرّحم يغتذي وينمو بتدبير النّفس النّباتيّة الّتى في الأمّ ، وتصوير الأعضاء أيضا ليس الّا بإعانة نفس الامّ لأنّها حريصة على إيجاد مثلها وبقائه وهي لا تصوّر اوّلا الّا ما كان مظهرا لمثلها لا لجنودها وهو القلب ، ولمّا كان القلب قبل تنزّله الى ارض العالم الصّغير كالدّرّة البيضاء وبعد تنزّله واختلاطه باهل العالم الصّغير صار متلوّنا وكان دحو ارض العالم الصّغير من تحته وكان في وسط هذا العالم من حيث لحمته الصّنوبريّة ومن حيث روحانيّته باعتبار استواء نسبته الى جميع أجزاء البدن وكان مولد الولاية ومتوجّها اليه لجميع أهل العالم الصّغير في مناسكهم ومآربهم وكان مأمنا لمن دخله ودخل حريمه وكان قائما بأمور أهل مملكته ومقوّما لهم وكان بركة ورازقا من جميع الثّمرات من كان من اهله ومن لم يكن من اهله ، وكان مثابة ومرجعا لهم ، وكان أصل جميع القرى في مملكته ، وكان على الجميع الرّجوع اليه والتجرّد من ثياب الانانيّة لديه ، والطّواف حوله والتردّد عنده والوقوف في حريمه وقتل انانيّته وقربانها قبل الوصول اليه ، أخبروا عن الكعبة بمثل ذلك وجعل الله لها من المناسك مثل ذلك ولعلّك تتفطّن اجمالا بحكم جميع احكام الحجّ ومناسكه بعد التفطّن بما ذكر ، وقد أشرنا الى بعضها فيما سبق ونشير الى بعض منها فيما يأتى والغافل عمّا ذكرنا النّاظر الى ظاهر ما ورد في الاخبار من أوصاف البيت والرّائى صور ما جعل له من المناسك لا يرى لها صحّة وحكمة عقلانيّة بل يريها كذبا ولغوا ، ولو لم يخف من الله أو من أهل الإسلام يطعن فيها كما يطعن الكفّار فيما ورد فيها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قرئ بالفتح وبالكسر وهما مصدرا حجّ بمعنى قصد مطلقا ، أو بمعنى قصد مكّة للمناسك المخصوصة ، أو بالفتح مصدر وبالكسر اسمه ، ولمّا كان أهل العالم الصّغير مفطورين على قصد بيت القلب وكان ذلك حقّا من حقوق الله عليهم وكان رجوعهم الى القلب رجوعا الى الله كلّف الله النّاس بزيارة الكعبة الّتى هي مظهر ذلك البيت ، وادّى هذا التّكليف بصورة الخبر تأكيدا واشعارا بانّ هذا كان في فطرتهم وحقّا لله عليهم وليس كسائر الحقوق الخلقيّة أو الالهيّة ففيه تأكيد الوجوب من وجوه عديدة : أداء الأمر بصورة الخبر ، وانّه من الأمور الّتى تقع لا محالة ولا حاجة الى الأمر به ، وتأكيده باسميّة الجملة ، وكونه حقّا على النّاس وكونه حقّا لله ، لا كسائر الحقوق الرّاجعة الى الخلق ، وحصر ذلك الحقّ في الله من غير شراكة الغير فيه (مَنِ اسْتَطاعَ) بدل من النّاس وفي هذا الإبدال تأكيد آخر للحكم من حيث التّخصيص بعد التعميم والتّوضيح بعد الإجمال فكأنّه كرّره وقال : لله على النّاس حجّ البيت لله على من استطاع (إِلَيْهِ سَبِيلاً) حجّه وهل الاستطاعة بالبدن أو بالبدن والمال أو الكسب بحيث يكفى لنفقته ونفقة من كان واجبا نفقته عليه ذهابا وإيابا ، أو بحيث يكفى لذلك ويرجع الى ما يكفى بعده ، وتحقيقه موكول الى الكتب الفقهيّة (وَمَنْ كَفَرَ) بالحجّ أو بالله في ترك الحجّ أو بأحكام الله في تركه ، وفي تسمية تركه كفرا تأكيد آخر لوجوبه فكأنّه قال : تارك الحجّ على حدّ الكفر والشّرك بالله فكما أنّه لا يغفر ان يشرك به لا يغفر ان يترك الحجّ ويغفر ما دون ذلك فمن ترك الحجّ لا يعبأ الله به (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه وذكر الغنى في مثل المقام يدلّ على المقت والخذلان وقال غنىّ (عَنِ الْعالَمِينَ) بدل غنىّ عنه مبالغة في الاستغناء ليدلّ على المبالغة في المقت