وهم الّذين يصدّونكم عن سبيل الله ويبغونها عوجا بالاستماع إليهم وقبول مفترياتهم (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) عن ايمانكم وعن السّبيل الموصل الى الله (كافِرِينَ) بعد تقريع أهل الكتاب على حيلتهم وخدعتهم للمؤمنين نبّه المؤمنين حتّى لا يغترّوا بهم وبأقوالهم المموّهة قيل : نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون فمرّ بهم واحد من كبار اليهود فغاظه تألّفهم واجتماعهم فأمر شابّا من اليهود ان يجلس إليهم ويذكّرهم ما بينهم من القتال وينشد لهم بعض ما قيل فيه ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السّلاح السّلاح واجتمع من القبلتين خلق عظيم فتوجّه إليهم رسول الله (ص) وأصحابه فقال : أتدّعون الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم امر الجاهليّة والّف بين قلوبكم ، فعلموا انّها نزعة من الشّيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السّلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) لا ينبغي لكم ذلك (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعنى انّ الكفر في جميع الأحوال قبيح خصوصا في تلك الحالة فانّ تلاوة الآيات ووجود الرّسول كليهما يميتان الكفر ويحييان فطرة الايمان ولا يكفر في مثل تلك الحال الّا من بلغ في الشّقاوة منتهاها (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن اهتدى الى الصّراط المستقيم الموصل له الى مطلوبه الّذى لا مطلوب له سواه لا يرجع منه البتّة ؛ وهذا وجه آخر لاستغراب الرّجوع الى الكفر يعنى انّكم اعتصمتم بالله بالبيعة مع رسوله (ص) فانّ البيعة تورث التمسّك بمن قبل البيعة والتمسّك بالرّسول (ص) تمسّك بالله لكونه مظهرا تامّا له ، ومن اعتصم بالرّسول (ص) يهتد الى الصّراط المستقيم الموصل الى الله لانّ الرّسول (ص) هو الصّراط المستقيم ومن اهتدى لا يرجع الّا إذا كان بالغا في العمى غايته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كرّر النّداء لتشريفهم وتهييجهم على الثّبات على الايمان والارتداع عن الكفر ولان يجبر كلفة التكليف بالتّقوى بلذّة النّداء (اتَّقُوا اللهَ) اتّقوا سخطه (حَقَّ تُقاتِهِ) قد مضى تحقيق معنى التّقوى ومراتبها في اوّل سورة البقرة وحقّ التّقوى على الإطلاق ان لا يبقى من المتّقى عين ولا اثر بطىّ جميع مراتب التّقوى والانتهاء الى التّقوى عن ذاته وعن تقواه في جنب ذات الله ولمّا كان التّقوى بهذا المعنى لا تتيسّر الّا لقليل قالوا : انّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة التغابن (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لكنّ الحقّ انّ حقّ التّقوى تختلف بحسب اختلاف الأشخاص وبحسب اختلاف مراتب الشّخص الواحد فانّ حقّ التّقوى بالنّسبة الى أصحاب النّفوس الامّارة وبالنّسبة الى من لم يدخل بعد في دين ولم يبايع البيعة العامّة مع نبىّ أو خليفته ان يحتاط في عمله ويطلب من يأخذ منه دينه ويترك ما ينافي طلبه وحقّ التّقوى بالنّسبة الى من دخل في دين ان يمتثل ما أمر به ، ويترك ما نهى عنه ، ويطلب من يدلّه على حقّ دينه وروح اعماله ، ويترك ما ينافي هذا الطّلب ، وحقّ التّقوى بالنّسبة الى من دخل في الايمان ودخل بذر الايمان في قلبه ان يمتثل ما امر به وينتهى عمّا نهى عنه بحسب ايمانه ، ومراتب التّقوى للدّاخل في الايمان كثيرة بحسب مراتب المؤمنين ودرجاتهم كما سبق مفصّلا ، وهكذا الحال في التّقوى بحسب مراتب الشخص الواحد من بشريّته الى فنائه فانّ حقّ التّقوى بحسب البشريّة غيرها بحسب الصّدر والقلب والرّوح وهكذا ؛ فالآية على هذا امر للجميع بالإتيان بحقّ التّقوى وكانت موافقة لقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ؛ لانّ حقّ التّقوى من كلّ أحد ما استطاعه لانّ الله لا يكلّف نفسا الّا وسعها ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، ولعلّك تفطّنت بصحّة تعميم الطّاعة