علما ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من النّار (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى له ما في السّماوات والأرض وادّاه بلفظ الميراث للاشعار بانّ ما فيها يبقى من بعض ويرثه بعض آخر ، وهكذا كان حاله وما كان حاله هكذا فلا ينبغي للعاقل ان يبخل به ولا يعطيه بيده وقال الله للاشارة الى انّ الكلّ ملكه فلا ينبغي للعاقل ان يبخل بملك الغير ولا يعطيه بأمره أو المعنى لله ميراث هي السّماوات وما فيها والأرض وما فيها من العالم الكبير والصّغير يعنى يفنى الكلّ ويبقى الله الواحد القهّار وارثا لها ولما فيها ؛ فما بال متروك به المرء يبخل؟! (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من البخل والإعطاء (خَبِيرٌ) وعد ووعيد وقرئ بالخطاب بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) لمّا ذمّ البخل والمنع توهّم انّ الله يحتاج في إصلاح حال الفقراء الى الأغنياء وكأنّه قيل : هل له حاجة الى إنفاق المنفق؟ ـ فقال تعالى ردّا لهذا الوهم وسدّا لهذا الخيال : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قالت اليهود ذلك لمّا سمعوا : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وقيل كتب النّبىّ (ص) مع أبى بكر الى يهود بنى قينقاع (١) يدعوهم الى الإسلام وما عليه المسلمون من اقام الصّلوة وإيتاء الزّكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل ابو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا الى رجل منهم ، فدعاهم الى الإسلام والصّلوة والزّكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فقال ذلك الرّجل : فانّ الله فقير والّا لما استقرضنا أموالنا فلطمه ابو بكر ونزلت الآية (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) قرئ سنكتب بالتّكلّم وبالغيبة على صيغة المجهول وقتلهم بالنّصب وبالرّفع (وَنَقُولُ) قرئ بالتّكلّم وبالغيبة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وفيه تأكيد في التّهديد من حيث اقتران ما قالوه بقتل الأنبياء (ع) وكتابته وضبطه بنفسه ثمّ ذكر الجزاء بالعذاب الحريق والاخبار باستهزائه بهم حين العذاب ، والذّوق ادراك المطعوم ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ ادراك ملذّ أو مولم ، وانّما اختار الذّوق الّذى يكون في المطعوم هاهنا لانّ العذاب مرتّب على قولهم وهذا القول ناش عن البخل والتّهالك على المال وغالب حاجة الإنسان الى المال تكون لتحصيل المطاعم ولذلك كثر ذكر الاكل مع المال (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) خصّص الأيدي بالذّكر لانّ معظم الأعمال البدنيّة تصدر منها (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الظّلام كالتمّار والخيّاط للنّسبة وليس للمبالغة وهو معطوف على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وسببيّة نفى الظّلم عنه تعالى للعذاب بواسطة انّ نفى الظّلم مستلزم للعدل والفضل والعدل يقتضي عقوبة المسيء كما يقتضي اثابة المحسن ، أو المقصود التّنبيه على انّ المسيء إذا صار متمكّنا في الاساءة صار فعليّته الاخيرة هي قوّته المسيئة المناسبة للجحيم وآلامها وتلك القوّة كما تكون مناسبة للجحيم تكون منافية للنّعيم ، والانسانيّة في هذا الإنسان تكون مغلوبة خفيّة غير ظاهرة باقتضائها فلو لم يدخل هذا الإنسان في الجحيم لكان ظلما على قوّته المقتضية لها وان كانت الجحيم عذابا لانسانيّته لكن انسانيّته مختفية غير مقتضية لشيء (الَّذِينَ قالُوا) صفة للّذين (قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) أو بدل منه ويجوز ان يكون مقطوعا مستأنفا للذّمّ خبر مبتدء محذوف ، أو مفعول فعل محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) اى في التّوراة لانّ القائلين القول الاوّل كانوا من اليهود كما سلف أو على لسان نبيّه (ص) وخلفاء نبيّه (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ
__________________
(١) قينقاع بفتح القاف وبتلثيث النون شعب اليهود من يهود المدينة.