التمدح مدرج في أثناء المدح ، فيكون نقيضه وهو الإدراك بالبصر نقصا ، وهو على الله تعالى محال ، فيدل هذا الوجه على نفي الجواز.
والجواب : أولا : أنه لو سلم عموم الإبصار وكون الكلام لعموم السلب ـ لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات ، فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا جمعا بين الأدلة.
وأورد عليه أولا : (١) أن هذا تمدح ، وما به التمدح يدوم في الدنيا والآخرة ولا يزول. ودفع بأن امتناع الزوال إنما هو فيما يرجع إلى الذات والصفات ، وأما ما يرجع إلى الأفعال فقد يزول لحدوثها. والرؤية من هذا القبيل فقد يخلقها الله تعالى في العين وقد لا يخلق ثم.
ولو سلّم عموم الأوقات فغايته الظهور والرجحان ، ومثله إنما يعتبر في العمليات دون العلميات.
وثانيا : أنا لا نسلم أن الإدراك بالبصر هو الرؤية أو لازم لها بل هو رؤية مخصوصة. وهو أن يكون على وجه الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول مأخوذا من أدركت فلانا إذا لحقته ، ولهذا يصح رأيت القمر وما أدركه بصري لإحاطة الغيم به ، ولا يصح أدركه البصر وما رأيته فيكون أخص من الرؤية ملزوما لها بمنزلة الإحاطة من العلم ، فلا يلزم من نفيه نفيها ، ولا من كون نفيه مدحا كون الرؤية نقصا ، واستدلالهم بأن قولنا أدركت القمر ببصري وما رأيته تناقض ، إنما يفيد ما ذكرنا لا ما ذكروا ، ونقلهم عن أئمة اللغة افتراء ، فإن إدراك الحواس مستعار من أدركت فلانا إذا لحقته ، وقد صار حقيقة عرفية ، فالرجوع فيه إلى العرف دون اللغة.
فإن قيل : فإذا كان الإدراك ما ذكرتم وهو مستحيل في حق الباري لم يكن لقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فائدة ، ولا لقوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٢) جهة.
__________________
(١) في (أ) بزيادة لفظ (أولا).
(٢) سورة الأنعام آية رقم ١٠٣ والبصر : هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظرية تدرك. والإدراك : عبارة عن الإحاطة ومنه قوله (إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي أحاط به ، ومنه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي محاط بنا فالمنفي إذا عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية.