وقدّم ابن تاشفين بين يديه كتابا إلى الفرنج يدعوهم إلى الإسلام ، أو الحرب ، أو الجزية.
ثمّ أقبلت الجيوش ، ونزلت تجاه الفرنج ، فاختار ابن عبّاد أن يكون هو المصادم للفرنج أوّلا ، وأن يكون ابن تاشفين ردفا له. ففعلوا ذلك ، فخذل الفرنج ، استمرّ القتل فيهم ، فقيل : إنّه لم يفلت منهم إلّا الأذفونش في أقلّ من ثلاثين. وغنم المسلمون غنيمة عظيمة. وذلك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
وعفّ يوسف عن الغنائم ، وآثر بها ملوك الأندلس ليتمّ له الأجر ، فأحبّوه وشكروا له. وكانت ملحمة عظيمة قلّ أن وقع في الإسلام مثلها (١).
وجرح فيها ملك الفرنج ، وجمعت رءوس الفرنج ، فكانت كالتّلّ العظيم (٢).
__________________
= الوقيعة الشهيرة للمسلمين على الطاغية عظيم الجلالقة اذفونش بن فرذلند ، بحميد سعي المعتمد محمد بن عبّاد ، وكان ذلك في الموفي عشرين من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة. وكان السبب في ذلك فساد الصلح المنعقد بين المعتمد وبين الطاغية المذكور بسبب إفناء هذه الضريبة ما في أيدي المسلمين من كور ، فإنّ المعتمد اشتغل عن أداء الضريبة في الوقت الّذي جرت عادته يؤدّيها فيه بغزو ابن صمادح صاحب المريّة واستنقاذه ما في يديه بسبب ذلك ، فتأخّر لأجل ذلك أداء الإتاوة عن وقتها ، فاستشاط الطاغية غضبا وتشطط فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة ، وأمعن في التجنّي ، فسأل في دخول امرأته القمطيجة إلى جامع قرطبة لتلد فيه من حمل كان بها حين أشار عليه بذلك القسّيسون والأساقفة ، لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظّمة عندهم عمل عليها المسلمون المسجد الأعظم ، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء ، غربي مدينة قرطبة ، تنزل بها فتختلف منها إلى الجامع المذكور حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع ، وزعم أنّ الأطبّاء أشاروا عليه بالولادة في الزهراء كما أشار عليه القسّيسون بالجامع ، وسفر بذلك بينهما يهوديّ كان وزيرا لابن فرذلند ، فتكلّم بين يدي المعتمد ببعض ما جاء به من عند صاحبه فأيأسه ابن عبّاد من جميع ذلك ، فأغلظ له اليهودي في القول وشافهه بما لم يحتمله ، فأخذ ابن عبّاد محبرة كانت بين يديه ، فأنزلها على رأس اليهودي فألقى دماغه في حلقه وأمر به فصلب منكوسا بقرطبة ، واستفتى ابن عبّاد الفقهاء لما سكت عنه الغضب عن حكم ما فعله باليهودي ، فبدره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدّي الرسول حدود الرسالة إلى ما يستوجب به القتل إذ ليس له أن يفعل ما فعل ، وقال للفقهاء حين خرجوا : إنما بدرت بالفتوى خوفا أن يكسل الرجل عمّا عزم عليه من منابذة العدوّ ، عسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجا.
(١) راجع خبر الزّلّاقة في حوادث سنة ٤٧٩ ه. في الطبقة الأسبق من هذا الكتاب.
(٢) وفيات الأعيان ٧ / ١١٨.