ثمّ عزم ابن عبّاد على أمير المسلمين يوسف ، ورام أن ينزل في ضيافته ، فأجابه ، فأنزله في قصوره على نهر إشبيلية. فرأى أماكن نزهة ، كثيرة الخير والحسن والرّزق. وبالغ المعتمد بن عبّاد وأولاده في خدمة أمير المسلمين ، وكان رجلا بربريّا ، قليل التّنعّم والتّلذّذ والرّفاهيّة ، فرأى ما هاله من الحشمة والعرش والأطعمة الفاخرة ، فأقبل خواصّه عليه ينبّهونه على تلك الهيئة ويحسّنونها ، ويقولون : ينبغي أن تتّخذ ببلادك نحو هذا. فأنكر عليهم ، وكان قد دخل في الشّيخوخة ، وفنيت إرادته ، وأدمن على عيش بلاده. ثمّ أخذ يعيب طريقة المعتمد وتنعّمه المفرط ، وقال : من يتعانى هذه اللّذات لا يمكن أن يعدل كما ينبغي أبدا. ومن كان هذا همّته في حفظ بلاده ورعيّته.
ثمّ سأل يوسف : هل يفعل المعتمد هذا التّنعّم في كلّ أوقاته؟ فقيل له :بل كلّ زمانه على هذا.
فسكت ، وأقام عنده أيّاما ، فأتى المعتمد رجل عاقل ناصح ، فخوّفه من غائلة ابن تاشفين ، وأشار عليه بأن يقبض عليه ، وأن لا يطلقه حتّى يأمر كلّ من بالأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء : ثمّ تتّفق أنت وملوك الأندلس على حراسة البحر من سفينة تجري له ، ثمّ تتوثّق منه بالأيمان أن لا يغدر ، ثمّ تطلقه ، وتأخذ منه على ذلك رهائن.
فأصغى المعتمد إلى مقالته واستصوبها ، وبقي يفكّر في انتهاز الفرصة ، وكان له ندماء قد انهمكوا معه في اللّذّات ، فقال أحدهم لهذا الرجل : ما كان أمير المؤمنين ، وهو إمام أهل المكرمات ممّن يعامل بالحيف ويغدر بالضّيف.
قال : إنّما الغدر أخذ الحقّ ممّن هو له ، لا دفع المرء عن نفسه.
قال النّديم : بل كظم مع وفاء ، خير من حزم مع جفاء.
ثمّ إنّ ذلك النّاصح استدرك الأمر وتلافاه ، وشكر له المعتمد ، وأجازه ، فبلغ الخبر ابن تاشفين ، فأصبح غاديا. فقدّم له المعتمد هدايا عظيمة ، فقبلها وعبر إلى سبتة. وبقي جلّ عسكره بالجزيرة يستريحون (١).
__________________
(١) وفيات الأعيان ٧ / ١١٩ ـ ١٢٢.