المعارف ، فأقر قوم ، وأنكر قوم كان عاقلا كاملا مكلفا. لانه لو كان بغير هذه الصفة لم يحسن خطابه ، ولا جاز أن يقر ، ولا أن ينكر.
ولو كان عاقلا كاملا لوجب أن يذكر الناس ما جرى في تلك الحال من الخطاب والإقرار والإنكار ، لان من المحال أن ينسي جميع الخلق ذلك ، حتى لا يذكروا ولا يذكره بعضهم.
هذا ما جرت العادات به ، ولو لا صحة هذا الأصل لجوز العاقل منا أن يكون أقام في بلد من البلدان متصرفا ، وهو كامل عاقل ثم نسي ذلك كله ، مع تطاول العهد ، حتى لا يذكر من أحواله تلك شيئا.
وانما لم نذكر ما جرى منا وانا في حال الطفولية ، لفقد كمال العقل في تلك الحال به(١) من تخلل أحوال عدم وموت من تلك الحال وأحوالنا هذه ويجعلونه سببا في عدم الذكر غير صحيح ، لان اعتراض العدم أو الموت بين الأحوال لا يوجب النسيان بجميع ما جرى مع كمال العقل.
ألا ترى أن اعتراض السكر والجنون والأمراض المزيلة للمعلوم بين الأحوال ، لا يوجب النسيان للعقلاء بما جرى بينهم.
فهذه الاخبار : اما أن تكون باطلة مصنوعة ، أو يكون تأويلها ـ ان كانت صحيحة ـ ما ذكرناه في مواضع كثيرة من تأويل قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٢).
وهو أن الله تعالى لما خلق الخلق وركّبهم تركيبا وأراهم الآيات والدلائل والعبر في أنفسهم وفي غيرهم ، يدل الناظر فيها المتأمّل لها على معرفة الله وإلهيته ووحدانيته ووجوب عبادته وطاعته ، جاز أن يجعل تسخيرها له وحصولها
__________________
(١) في «ن» : وما يجدون به.
(٢) سورة الأعراف : ١٧٢