وإذا تمهّد ذلك فنستدل على حرمة التجرّي بأنّ التجرّي والعصيان الحقيقي مشتركان في كونهما هتكا للمولى وجرأة عليه وتمرّدا له في تكاليفه وعدم المبالاة بشأنه ، وهذا هو القبيح الصدوري الذي قد مرّ آنفا ، ويفترقان في مصادفة فعل العاصي للمحرم الواقعي دون المتجرّي ، وقد أثبتنا أنّ منشأ استحقاق العقاب في العصيان الحقيقي ليس كونه حراما واقعا بدليل معذورية الجاهل والناسي والمضطرّ وغيرهم من ذوي الأعذار ، فلم يبق إلّا أنّ المنشأ هو
__________________
المكلّف ، ويمكن أن يكون من جهة حسنه أو قبحه من حيث صدوره عن المكلّف في مقام الإطاعة والمعصية.
وبعبارة أخرى : منشأ استحقاق الثواب والعقاب هو الفعل بالمعنى المصدريّ أو الفعل بمعنى اسم المصدر يعني نفس الحدث من جهة الحسن والقبح بالموافقة والمخالفة؟
الأقرب هو الأوّل ، يشهد بذلك ما يتراءى في عكس التجرّي وهو أن يأتي المكلف بما هو مبغوض المولى جهلا أو سهوا أو نسيانا ، فإنّه لا يستحق العقاب معلّلا بأنّه لم يصدر منه الفعل المبغوض لعذره ، وإن وجد في الخارج مبغوضه وكان بفعل المكلف أيضا لكنه غير مبغوض من حيث صدوره منه بل من حيث كون نفس الفعل قبيحا ، ويشهد له أيضا ما اتفقوا ظاهرا من حرمة التشريع ، فإنّ الفعل الذي يتحقّق في ضمنه التشريع لا قبح فيه في نفسه بل قد يكون حسنا ومندوبا شرعيا كالغسلة الثانية في الوضوء ومع ذلك حرام شرعيّ وقبيح عقلي ، وليس إلّا لأنّه صدر بعنوان المكابرة مع المولى وجعل نفسه حاكما في قباله ، ونظيره حسن الفعل الذي يتحقق في ضمنه الاحتياط وإن لم يكن فيه حسن في نفسه بل وإن كان مرجوحا في حدّ نفسه.
نعم على مذهب من يقول إنّ معنى حرمة التشريع حرمة القصد والاعتقاد بكون ما ليس من الدين في الدين ، ولا يؤثّر الحرمة في الفعل على وجه التشريع لم يكن شاهدا لما نحن بصدده ، لكنّه خلاف مختار الأكثرين.
أقول : لو لم يثبت حرمة التشريع وحسن الاحتياط شرعا كما ثبت كان حالهما حال التجرّي في حكم العقل سواء ، ولو فرض حكم العقل بقبح التشريع دون التجرّي فلعله من جهة أنّ العبد تشبّه بالمولى في جعل الأحكام والتحليل والتحريم ، وذلك زائد على جهة مخالفة المولى في تكاليفه كما لا يخفى.