فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات المذكورة ، وروايات أخرى يطول المقام بذكرها جميعاً ، هو أنّ الإسلام أسَّس نهضة علمية واسعة ، وأنّ هذه النهضة المباركة نمت وترعرعت خلال قرنين أو ثلاثة وتشعبت تلك الشّجرة المباركة حتى عمَّت غصونها كلّ العالم الإسلامي ، وأثمرت في فترة وجيزة ثماراً كثيرة منها الكتب الكثيرة التي أُلِّفتْ وصُنِّفتْ في مختلف الفروع العلميّة كالمعارف الإلهيّة والفلسفيّة والطّب والصّحة والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وغير ذلك ، وتُرجِمَ بعضها وحققّ البعض الآخر ونشرت بصورة تحقيقات جديدة لعلماء الإسلام.
العلماء الذين بحثوا تاريخ الحضارة الإسلاميّة وكتبوا كتُباً في ذلك ، ومنهم علماء الغرب خصصوا فصلاً مهما من تاريخ الحضارة الإسلاميّة للنهضة العلميّة عند المسلمين ، وعدّدوا فروع علوم مختلفة انتشرت وإتخذت رونقاً خاصاً عندهم مع ذكر روّاد تلك العلوم المسلمين فرداً فرداً.
والنكتة المهمّة هنا هي اعتراف المؤرخين الغربيين الصّريح بأن النّهضة العلميّة في أوربا قد استندت إلى نهضة المسلمين العلميّة وأنّ الأوربيين مدينون في نهضتهم لعلماء الإسلام!
ففي كتاب «تاريخ الحضارة الغربية ومبانيها في الشّرق» والذي كتب من قبل مجموعة من علماء الغرب ، جاء : «عندما نطالع خدمات البيزنطينيّة (١) والمسلمين للثّقافة الغربيّة يمكننا القول بأنّ نوراً عظيماً أشرق من الشرق على الغرب»!
يقول الدكتور ماكس يرهوف في كتاب «ميراث الإسلام» : «لقد كانت علوم العرب (المسلمين) كالقمر المنير الذي يضيء ظلمات ليالي أوربا القرون الوسطى ، ولما ظهرت العلوم الجديدة خفت نور ذلك القمر ، ولكن كان ذلك القمر هو الذي هدانا في تلك الليالي الظلماء حتى وصلنا إلى هذا المستوى ، ويمكننا القول بأنّ نور ذلك القمر لا زال معنا» (٢).
ونقرأ في ذلك الكتاب أيضاً : «.... والخلاصة ، وبهذه الوسيلة (ترجمة كتب علماء
__________________
(١) «البيزنطينيّة» ، إمبراطورية روما الشّرقية وعاصمتها البيزنطينيّة وهي الآن تشمل قسماً من تركية ، وتعتبرإسطانبول الفعلية محلاً لعاصمتها البيزنطينيّة.
(٢) ميراث الإسلام ، ص ١٣٤.