فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة ، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها ، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد ، وعلى ذلك أجساد الجزاء ، فإنها تخرج عن الآفات ، وتمنع عن الفساد ، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني ، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى ، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات ، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها ، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة ، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار ؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى ، وفي الآخرة لا تعرض الآفات [التي](١) يحتاج فيها إلى الأغذية ، وإنما ينال عنها الشهوات واللذات ، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد ؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة ، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار.
فأما حجج السمع : فإن الله ـ عزوجل ـ قال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ...) الآية [الحج : ٥] ، وقال : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً ...) الآية [الإسراء : ٤٩] ، وقال ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية [يس : ٧٨ ـ ٧٩] ، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث ، والإشكال كان لهم في الأجساد ، وفيها جرت المحاجاة ؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة [التي](٢) لا تمس ولا تحس في التجديد (٣) لم يكن بحيث احتمال الإنكار (٤) لوجودهم في كل حال ؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود ، وكذلك العلوم والسمع والبصر ، ونحو ذلك ، ثم الحسيات اللطائف : نحو الليل ، والنهار ، والنور ، والظلمة ، والظل ، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع ؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا ؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق ، والله أعلم.
والاعتبار أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون ؛ ليكون ذلك علما للترغيب والترهيب بالموعود ، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في
__________________
(١) سقط من ب.
(٢) سقط من ب.
(٣) في ب : التحذير.
(٤) في ب : الإبكار.