والثاني : أنهم لم يروا غير الله خلق السموات والأرض ، ولا رأوا أحدا خلقهم سوى الله ، كيف سموا دونه إلها ولم يخلق ما ذكرنا؟! إنما خلق ذلك الله الذي لا إله غيره ، وذلك قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي : يعلمون أنه لا إله إلا [الله](١) إله واحد ، لكنهم يتعنتون ويكابرون في ذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) : عما تقدم ذكره (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) : عن مقالتهم الشرك ، فإن فعلوا فإن الله غفور رحيم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، وبالله العصمة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ)
في الآية دلالة المحاجة مع الفريقين ؛ كأنهم كانوا فريقين : أحد الفريقين كانوا ينكرون (٢) أنه رسول ، والفريق الآخر يدعون له الربوبية والألوهية ، فقال : إنه ابن مريم ،
__________________
ـ كسائر البشر ، وأنه كان لي بداية ، وسيكون لي نهاية ، وإني لا أقتدر أن أبتدع خلق ذبابة» ؛ فدين المسيح مبني على التوحيد الخالص ، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله ، فها هي النصوص تدحض حجتهم ، وتلك هي البراهين تسفه آراءهم وتلزمهم ـ إذا أرادوا الحق ـ بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والبنوة.
شبهة اليهود :
أما اليهود الذين قالوا : إن عزيرا ابن الله : فقد أشار الله ـ تعالى ـ إليه بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)[التوبة : ٣٠] ، وإنما نسب ذلك القول إلى اليهود ، مع أن القائل طائفة مخصوصة ؛ جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ؛ يقال : فلان يركب الخيول ، ولعله لم يركب إلا واحدا منها. وفلان يجالس السلاطين ، ولعله لا يجالس إلا واحدا منهم. ولعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع ؛ فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ؛ فإن حكاية الله عنهم أصدق.
السبب الذي دعاهم إلى هذا القول :
أن اليهود أضاعوا التوراة ، وعملوا بغير الحق ؛ فأنساهم الله ـ تعالى ـ إياها ونسخها من صدورهم ؛ فتضرع عزير إلى الله ، وابتهل إليه ؛ فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، وأنذر قومه بها ، فلما جربوه ووجدوه صادقا في دعواه ، قالوا : ما هذا العزير إلا ابن الله. وهذه شبهة واهية ، لا يصح الاستناد إليها ؛ لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله ـ تعالى ـ والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه ، لا بالبنوة كما يزعمون ، فهذا جملة المحكي عنهم والرد عليه ، أسأل الله أن يوفقنا إلى اتباع خير العقائد ، وأن يهدينا سواء السبيل وحسن الخاتمة ؛ إنه ولى التوفيق والهادى إلى الصراط المستقيم.
ينظر : صفة الوحدانية لعبد الحميد فتح الله (ص / ٩٤ ـ ١٠٢).
(١) سقط من ب.
(٢) في أ : يكفرون.