أن بيان جعل الله مدة حكم الأوّل بما يحدث فيه الحكم ، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) ـ معنى ؛ لأن كل شيء في حكم الله أنه ينسخه ، فالوعد في حكمه قائم ، إلا أن يقول قائل : لا يصدق الرسول صلىاللهعليهوسلم ببيان وعد الحكم ، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط ؛ فيحتاج أن يحدث منه إيمانا ، والله الموفق ، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة ، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه.
وبعد ، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ : أنه البيان عن منتهي حكم المذكور من الوقت ، ولا ريب أن لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بيان منتهي الحكم من النوع ، فمثله الوقت.
ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام ؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيها الرجم ، وقد ذكر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما رجم بحكم التوراة ، وقال : «أنا أوّل من أحيا سنّة أماتوها» (١). وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه ، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من أشرك بالله فليس بمحصن» (٢) ، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن.
وقال قوم : عقوبة الحبس في الإناث خاصة ، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ...)(٣) الآية ، وهذا
__________________
(١) تقدم تخريج حديث رجم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ اليهوديين.
(٢) أخرجه الدارقطني في سننه (٣ / ١٤٧) في كتاب الحدود والديات ، والبيهقي في السنن (٨ / ٢١٦) في الحدود : باب «من قال : من أشرك بالله فليس بمحصن» ، وذكره الزيلعي في نصب الراية (٢ / ٣٢٧) وعزاه لإسحاق بن راهويه في مسنده والدارقطني والبيهقي في سننهما.
(٣) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٦٥) : هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة. قال الإمام الشافعي في الرسالة في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين : ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢]. فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين لحديث عبادة بن الصامت المتقدم.
ثم قال : فدلت سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرّين ، ومنسوخ عن الثيبين. وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين. ثم قال : لأن قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب الثيب جلد مائة والرجم» أول ما نزل فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.
فلما رجم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماعزا ولم يجلده ، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلمي ، فإن اعترفت رجمها ـ دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين. وثبت الرجم عليهما ؛ لأن كل شيء ـ أبدا ـ بعد أول فهو آخر. انتهى.