إنما خلقهم للزوال عنها والفناء ، والمقام في الآخرة والدوام فيها ؛ لكن خلقهم في هذه الدنيا ـ ليمتحنهم ويبتلون فيها ؛ ثم يصيرون إلى دار المقام ، فالآخرة هي المقصودة في خلقهم في الدنيا ؛ لا الدنيا ؛ فإذا كان كذلك أضاف المصير إلى نفسه ، لما هو المقصود في خلقهم ؛ وإن كانوا في الدنيا والآخرة صائرين إليه ، غير غائبين عنه طرفة عين ؛ ولا فائتين ، وبالله النجاة.
ذكر الله ـ عزوجل ـ أنباء الرسل الماضية وأتباعهم ؛ وأنباء أعدائهم ؛ وما عامل بعضهم بعضا ، وما نزل بالأعداء ـ بما عاملوا رسلهم ـ من العذاب والاستئصال وأنواع البلايا ، وما أكرم رسله وأتباعهم وأولياءهم من النصر على أعدائهم ؛ والظفر بهم ، والتمكين في الأرض ، وجعل ذلك كله كتابا بالحكمة ؛ يتلى ليعلم ؛ [أن كيف](١) يعامل الأعداء والأولياء ؛ وليرغب فيما استوجب الأولياء من الكرامات وليحذروا عن مثل صنيع الأعداء ؛ وليعلموا أن كيف عامل الله رسله وأولياءه ، وكيف عامل الرسل ربّهم ، أضاف الرسل جميع ما نالوا (٢) من الخيرات والكرامات إلى الله ؛ كأن لا صنع لهم في ذلك ؛ حيث قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، ذكر قوله : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ليعلم أن الخير ليس يكون بالجوهر ؛ ولكن بفضل من الله تعالى وبرحمته ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) وأمثاله ، أضافوا ذلك إليه ؛ كأنهم لا صنع لهم في ذلك.
وذكر الله ـ عزوجل ـ ما أكرم أولياءه ورسله ؛ من النصر والتمكين والإنزال في الديار ، كأنهم استوجبوا ذلك بفعل كان منهم ؛ وهو قوله : (ذلِكَ) أي : ذلك النصر والتمكين ، وما ذكرنا من الوجوه (لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ذكر أنهم (٣) استوجبوا ذلك ، لا أن كان ، (ذلِكَ) من الله بحق إفضاله وامتنانه ؛ ليعلموا معاملة الله رسله وأولياءه ، ومعاملة الرسل والأولياء لسيدهم ومولاهم. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَفْتَحُوا).
يحتمل وجهين :
أحدهما : الاستنصار ؛ استنصروا الله على أعدائهم ؛ كقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي : يستنصرون.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : تأتونا.
(٣) في ب : كأنهم.