والثاني : (وَاسْتَفْتَحُوا) أي : تحاكموا إلى الله في النصر للأحق منهم ؛ والأقرب إلى الحق ؛ كقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا ...) الآية [الأعراف : ٨٩] وهو التحاكم إليه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).
هو ما ذكرنا : تحاكموا إلى الله ؛ فنصر أولياءه ، وأهلك أعداءه ، على ما ذكر أن أبا جهل قال : اللهم دينك القويم (١) وأياديك الحسنة ، أيّنا كان أحبّ إليك وأقرب إلى الحق ـ فانصره ؛ فنصر المؤمنين وأهلك الأعداء.
وقوله : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي : تجبر على رسله وأوليائه ، والعنيد : قيل (٢) : المعرض المجانب عن الحق والطاعة.
وقال بعضهم : الجبار : القاتل على الغضب والضارب على الغضب ؛ وهو ما ذكرنا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : من وراء عذاب الدنيا لهم عذاب جهنم.
[و](٣) قوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) : الوراء : قد يستعمل في أمام وخلف ؛ أي : من أمام ما حلّ بهم جهنم ، ويحتمل : وراء ما أصابهم ؛ ما ذكر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ).
أى : يسقى في جهنم صديدا مكان ما يسقون في الدنيا ؛ وهو الذي يسيل من القروح [والجروح](٤) ، جعل الله للكافرين (٥) في الآخرة مكانا بما كان لهم في الدنيا ؛ لباسا وشرابا وطعاما ؛ ما كانت تكرهه أنفسهم ، جعل مكان ما يسقون في الدنيا من الماء ـ في النار : الصديد والغسلين والحميم ، ومكان الطعام في الدنيا ـ في النار : الزقوم والضريع ، ومكان اللباس : القطران ونحوه ، ومكان القرين والصديق في الدنيا : يجعل قرينه الشيطان ، كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] إذ ذلك كله يمنعهم عن دين الله ؛ ويصدهم عن ذكره ، ليكون جزاؤهم من نوع ما كان يمنعهم في الدنيا عن طاعته.
ثم قال بعضهم (٦) : إن الصديد الذي يسقون : هو أن النار تجرحهم وتقرحهم ؛ فيسيل ـ من ذلك ـ الصديد ؛ فيسقون من ذلك.
__________________
(١) في أ : القديم.
(٢) قاله إبراهيم ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٦١٩ ، ٢٠٦٢٠) ، وعن قتادة (٢٠٦٢١ ، ٢٠٦٢٢ ، ٢٠٦٢٣) وابن زيد (٢٠٦٢٤ ، ٢٠٦٢٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ١٣٧).
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في أ.
(٥) في ب : للكافر.
(٦) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٠٦٢٩ ، ٢٠٦٣٠) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٣٨).