ترى أنهم يكذبون يوم الحشر عند معاينتهم الآيات ، وهو قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) إلى قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٢ ، ٢٣] : أخبر أنهم يكذبون وقد عاينوا الآيات ، وليست الآية التي تنزل عليهم في الدنيا بأعظم من الآيات التى يعاينونها يوم القيامة ، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب ؛ دلّ أن الآية ليست تحملهم على الإيمان ، ولا تضطرهم عليه ، ولكن لو شاء لآمنوا بالاختيار فيبطل تأويله.
ثم الآية تحتمل عندنا وجهين :
أحدهما : قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بظاهر السبب الذي إذا أعطاهم لآمنوا له ، (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية [الزخرف : ٣٣] : أخبر أنه لو ما يرغب الناس في الكفر فيكونون كفارا كلهم ، وإلا جعل سقف أهل الكفر ومعارجهم من فضة ؛ فلو أنه جعل ذلك بعينه لأهل الإسلام وفي أيديهم لآمنوا ـ أيضا ـ كلهم ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في أيدى الكفرة ؛ فيحمل أهل الإسلام على الكفر ، وإذا كان ذلك بعينه لأهل الإسلام ـ لا يحمل أهل الكفر على ترك الكفر والدخول في الإسلام.
والوجه الثاني : لو شاء لجعلهم أمّة واحدة بلطف منه : يشرح صدره للإسلام من غير أن يعلم أن أحدا ألقى ذلك في قلبه ، من نحو ما مكّن للشيطان عدو الله ؛ حتى يقذف في قلوب الخلق ويلقي وساوس ، من غير أن يعلموا أن أحدا دعا إلى ذلك وألقى إلى قلوبهم ؛ ألا ترى أن إبليس لما وسوس إلى آدم ـ عليهالسلام ـ ليتناول من الشجرة التي نهى عنها ربّه لو علم أنه إبليس لما أجابه ، وكذلك ما مكن للملائكة من تثبيت قلوب الذين آمنوا ، وإلقاء أشياء في قلوبهم ، ويلهمونهم ، وهو قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال : ١٢] من غير أن يعلموا [أنّ](١) أحدا دعاهم إلى ذلك ، أو ألقى أحد ذلك في قلوبهم ؛ فمن ملك تمكين عدوه وملائكته على ما ذكرنا يملك شرح الصّدر للإسلام والدعاء إلى ذلك من غير أن يعلموا أن أحدا فعل ذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
على قول الحسن : على الحكم لذلك.
وقال أبو بكر الأصم : يضل بالنهي من نهى ، ويهدي بالأمر. لكن هذا فاسد ؛ لأنه لو كان بالنهي مضلّا وبالأمر هاديا ـ لكان مضلّا للأنبياء والرسل ؛ لأنه قد نهاهم بمناه ؛ فيكون مضلّا لهم.
__________________
(١) سقط في أ.