(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ...) الآية [البقرة : ١٧٨](١).
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ).
على ذلك.
(لَهُوَ خَيْرٌ) أي : الصبر خير (لِلصَّابِرِينَ).
ودل قوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) على أن الآية في القصاص لا في الحرب ؛ لأنه في الحرب لا يقال اصبر ولا تصبر ، بل يكون الصبر جهادا ؛ دل أنه في غير المحاربة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ).
أي : ما توفيقك على الصّبر إلا بالله ؛ كقول شعيب : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ...) الآية
__________________
(١) قال الواحدي ـ رحمهالله ـ : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قول ابن عباس في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي ـ رضي الله عنهم ـ : أن النبي (لما رأى حمزة وقد مثلوا به ، قال : «والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ؛ فنزل جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بخواتيم سورة النحل ، فكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمسك عما أراد ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكية إلا هذه الثلاث آيات.
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا)[البقرة : ١٩٠] ، وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلما أعز الله الإسلام وأهله ، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عباس والضحاك.
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين.
وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أمر محمدا بدعوة الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانيا ، وبالشتم ثالثا ، ثم إن ذلك الداعي المحق إذا تسمع تلك السفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ، تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ترك العزم على المثلة ، وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟
قلنا : لا حاجة إلى القدم في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
ينظر : اللباب (١٢ / ١٨٨ ، ١٨٩).