خيرا من ذلك (١).
ثم أخبر أن الذي حملهم على ذلك السؤال وأنواع الطعن فيه هو تكذيبهم بالساعة ؛ حيث قال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) حيث لم يروا لأمورهم عاقبة ينتهون إليها ؛ يثابون عليها أو يعاقبون.
ثم أخبر ما أعدّ لهم بتكذيبهم الساعة فقال : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً).
ثم وصف ذلك السعير فقال : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً).
وقوله : (رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : يحتمل وجهين : أحدهما : يجعل لها أسبابا تراهم كما يرونها. والثاني إذا صاروا في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم.
وقوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) : قيل : إن النار ترفع ويعلو لهبها ، وترد من كان في أعلاها إلى أسفلها ، ويرد من كان في أسفلها إلى أعلاها ، فيجمعهم جميعا فيضيق عليهم المكان ويشتد بهم العذاب ، كلما ضاق عليهم المكان كان العذاب لهم أشد.
وقوله : (مُقَرَّنِينَ) : قال بعضهم (٢) : مقيدين بعضهم ببعض.
ثم قال بعضهم : الشيطان يقرن ، ويقيّد كل بشيطانه الذي دعاه إلى دعائه واتبعه ؛ كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ...) الآية.
وقال بعضهم : يقرن العابد والمعبود من دون الله ، وهو الأصنام التي عبدوها ؛ كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية.
وقوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) أي : هلاكا ، والثبور : الهلاك ؛ كقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي : هالكا.
والثبور والويل : هما حرفان يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة ، فقال : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ، أي : لا تدعوا هلاكا واحدا ؛ كما يكون في الدنيا أن من هلك مرة لا يهلك ثانيا ، وأما في النار فإن لأهلها هلكات لا تحصى ؛ كقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : أسباب الموت تأتيهم من كل مكان وما هو بميت ؛ وكقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ...) الآية.
وإنما يسألون ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب ؛ وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٨٤).
(٢) قاله أبو صالح بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٧).