أمرا أو استقبلهم أمر يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجى والتدبير منهم ، ثم يعملون بتدبير يكون لهم وما يرون ذلك صوابا ؛ وعلى ذلك أمر الله رسوله أن يشاور أصحابه بقوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩] ، ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على الله في ذلك ، وأن يكل أمره إليه.
وقوله : (حَتَّى تَشْهَدُونِ) : يحتمل وجهين :
ما كنت قاطعة أمرا حتى تحضروا.
أو ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدوا أنه صواب حق.
فأجابوها فيما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك ، فقالوا : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، أي : نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس شديد ، أي : حرب وقتال شديد ، أي : لنا معرفة في ذلك ، ومع ما قالوا وكلوا الأمر إليها حيث قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) ، وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والحسن لهم ، ثم يكلوا الأمر إليهم.
وقصة سليمان صلوات الله عليه مع ما فيها من العجائب والآداب ، ففيها معرفة سياسة الملوك وتعلم آدابهم ؛ من ذلك : ما قال سليمان : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، ومن ذلك قوله : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ...) الآية ، وقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ،) أو من ذلك استشارة بلقيس أشراف قومها في ذلك وجوابات قومها لها ، وإخبارها إياهم من طبع الملوك وعاداتهم من الإفساد والقتل والإذلال ؛ حيث قالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) : قال أهل التأويل : هذه شهادة من الله لها بما قالت ، والتصديق لها فيما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.
ثم قال : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) : ذكر أنها قالت : إن لي في هذا رأيا ، فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال فيسكت عنا ويكف شره ، وإن يكن نبيّا فلا يقبل ذلك منا وسنعرف ، فعملت ذلك وأرسلت إليه بهدايا ، فلم يقبلها سليمان فعرفت أنه نبي ، وهذا كان منها تدبيرا أو حسن الرأي في الأمر واحتيالا وفقت في ذلك ، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها.
وقال ابن عباس : «قالت بلقيس لما أتاها كتاب سليمان ، واستشارت قومها في ذلك وطلبت فتياهم ، فأفتوا لها بما أفتوا ـ قالت : أبعث إليه بهدية ، فإن قبلها فهو ملك فأحاربه ، وإن لم يقبلها فهو نبي أتابعه» (١).
__________________
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٢).