وقوله : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) : قال ذلك ـ والله أعلم ـ للرسول الذي أتاه بالهدية : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) ، أي : لنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها إن لم يأتوني مسلمين ، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) إن لم يأتوني مسلمين.
ثم قال سليمان ـ عليهالسلام ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) إنما خاطب به أشراف قومه ، وهكذا العادة في الملوك أنهم إذا خاطبوا أحدا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمنزلة منهم.
(أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : قال بعض أهل التأويل (١) : إنما قال هذا لأنه علم نبي الله متى أسلموا يحرم أموالهم مع دمائهم ، فأحب أن يؤتى به قبل أن يحرم ذلك عليه ، لكن هذا محال بعيد وفحش من القول لا يحتمل أن يكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعد ما رد هداياها إليها ، وأخبر : إنكم تفرحون بها ؛ لأنكم أهل دنيا ؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال ، ونحن أهل الدين رغبنا في الدين به نفرح ، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها.
لكنه ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه أراد أن يريهم قوته وسلطانه أن يرفع واحد من جنوده عرشها ـ مع عظمه ـ بمعاينة منهم ومشاهدة وحمله من بينهم ؛ ليعلموا أن من قدر على ذلك لقادر أن يأتيهم بجنود لا طاقة لهم تصديقا لما قال : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) ، ويقدر على قهرهم وغلبتهم.
والثاني : أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.
وهذا التأويل الذي ذكرنا آية ، لكنه قبل أن يأتوه ؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.
وقوله : (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : مصالحين ، وذلك جائز في اللغة.
وقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) : قال بعضهم (٢) : مقامه : مجلسه الذي كان يقضي فيه إلى أن يفرغ من قضائه حتى يؤتى به.
(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) : لأن الجن أقوى من الإنس وصف نفسه بالأمانة ؛ لأن الجن لا يرغبون في الأموال ما يرغب الإنس.
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٩٨٠) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٤).
(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٤) ، وعن مجاهد وقتادة ووهب بن منبه أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٩٨٩) ، (٢٦٩٩٠) ، (٢٦٩٩١).