وقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُ) أي : حتى إذا جاءوا جميعا واجتمعوا ـ يعني : الكفار ـ قال لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) ، يحتمل (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) أي : قد أحطتم بها علما أنها آيات ، لكن كذبتم وأنكرتم أنها آيات عنادا ومكابرة ؛ إذ يجوز أن يتكلم بالنفي على إثبات ضده ؛ كقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أي : يعلم بضد ذلك وبخلاف ما تقولون أنتم ، وذلك جائز في القرآن كثير.
أو أن يكون قوله : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) لما لم تتفكروا فيها ، ولم تنظروا إليها نظر التعظيم والإجلال لكي تعرفوا ، وأحطتم بها علما أنها آيات.
وإلا لو كان التأويل على ظاهر ما ذكر لكان لهم عذر في تكذيبها إذا لم يحيطوا بها علما ؛ إذ من لم يحط العلم بالشيء فله عذر الرد وترك القبول ، لكن يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما ، والله أعلم.
ثم قال : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : في تكذيب الآيات والأعمال التي عملوها بلا حجة ، ولا برهان.
(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي : وجب القول بالعذاب ، ووقع ما وعدوا من العذاب بما ظلموا حيث قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ونحوه.
وقوله : (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي : لا ينطقون بالحجة مما يكون لهم به عذر.
وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي : في الليل والنهار لآيات لقوم يؤمنون.
ثم الآيات التي ذكر فيهما تكون من وجوه :
أحدها : دلالة وحدانيته ودلالة علمه ، وتدبيره وحكمته ، ودلالة كرمه وجوده ، ودلالة قدرته وسلطانه ، ودلالة القدرة على البعث والإحياء بعد ما صاروا رمادا وترابا.
أما دلالة كرمه وجوده : ما جعل لهم في الليل والنهار منافع تدوم ما داموا هم.
ثم تلك المنافع تكون من وجهين :
أحدهما : جعل النهار للتقلب فيه والتصرف لمعاشهم وما به قوام دنياهم ، وجعل الليل راحة لهم وسكونا ، ولو جعلهما جميعا للتقلب ما قام به معاشهم وما به قوام أنفسهم وأبدانهم أبدا ؛ لأنه لا يلتئم ذلك إلا بالراحة ، ولو جعلهما جميعا للراحة لم يقم أمر معاشهم ، فمن رحمته وفضله جعل أحدهما للراحة والآخر للتقلب ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣].
والثاني : من النعمة التي ذكر أنه جعل الذي للتقلب إنما جعل ذلك للكل ، لا للبعض