يعطي لمعروفه وتبرعه بدلا وأجرا ، والأفضل على المتبرع وعلى صانع المعروف ألّا يأخذ على ذلك بدلا ، إلا أن موسى كان قد اشتدت به الحاجة ؛ لذلك كان ما ذكر وأخذ لمعروفه ما ذكر بدلا ، والله أعلم.
وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي : لما جاء موسى أبا المرأتين وقص عليه قصته قال له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
دل قوله هذا لموسى : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أنه لم يكن لفرعون على ذلك المكان سلطان ولا يد ؛ إذ لو كان له سلطان لكان له فيه الخوف الذي كان من قبل ، ولم يكن نجا موسى منه ، دل أنه لم يكن له عليهم سلطان.
وقوله : (الظَّالِمِينَ) يحتمل : المشركين ؛ إذ كل مشرك ظالم.
ويحتمل (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : الذين يقتلون بغير حق حيث قال : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وقوله : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) : قال أهل التأويل (١) : قال أبوهما لما قالت له استأجره فإنه قوي أمين : ما قوته وأمانته؟ فقالت : أما قوته : فإنه رفع الحجر من رأس البئر وحده ، وكان لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا ، ونزح الدلو من البئر وحده ، وكان لا يطيق نزحه إلا كذا كذا ؛ فذلك قوته.
وأمّا أمانته : فإنه قال لي : امشي خلفي وصفي لي الطريق ؛ فذلك أمانته.
ولكن قد كانت تعرف أمانته قبل ذلك لما جرى بينه وبينهما من المعاملة حين قال لهما : (ما خَطْبُكُما) ، وحين سقى لهما في مثل هذا تعرف أمانته في ترك النظر إليهما ، وترك الاعتراض لما يوجب التهمة ، والله أعلم.
وقولها : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) كأن أباها كان في طلب أجير قوي أمين ، لكنه لا يجد ولا يظفر به ؛ لذلك قالت له : (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) إذ لا يحتمل أن يكون له ماشية وله غناء وبه حاجة إلى رعي ذلك وسقيه ، وقد بلغ في نفسه من الكبر والضعف ما ذكر ، يرسل ابنتيه في الرعي والسقي ، ولا يستأجر الأجير ليتولى ذلك دون بناته ، هذا لا يحتمل ذلك ، وخاصة مع ما وصف ابنته من الحياء حيث قال : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) دل ذلك أنه كان في طلب الأجير ، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه ؛ لذلك قالت له : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
__________________
(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٣٧٦) ، (٢٧٣٧٨) ، وعن مجاهد (٢٧٣٨٠) ، (٢٧٣٨١) ، (٢٧٣٨٢) ، وقتادة (٢٧٣٨٦) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٣٩).