وقوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) بالضم ، والرهب بالفتح ؛ قد قرئ بهما جميعا.
ثم قال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ، قوله : (مِنَ الرَّهْبِ) موصول بقوله : (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من الرهب ، أي : الخوف والغرق.
وقال بعضهم : أمره أن يضم يديه إلى نفسه ؛ لأن ذلك أخوف وأهيب وأعظم من إرسالهما ، وذلك معروف أيضا في الناس أنهم إذا دخلوا على ملك من الملوك ضموا أيديهم وجناحيهم إلى أنفسهم ؛ تعظيما لهم وتبجيلا ، أو خوفا منهم.
فعلى ذلك جائز أن يأمره بضم يديه إلى نفسه ؛ ليكون بين يدي ربه أهيب وأخوف ما يكون ، وأعظم ما يجب له ، وهو ما قال له : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢].
وقوله : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي : اليد والعصا ، اللتان ذكرهما (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي : حجتان (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).
وقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً).
وقال في سورة الشعراء : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ...) إلى قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] أخر في هذا ما كان مقدما في الذكر في ذلك ، وذكره على اختلاف الألفاظ وتغيير الحروف ؛ ليعلم : أن ليس على السامع حفظ الألفاظ والحروف بعد إصابته المعنى ، وفهم ما قصد بها وأودع فيها ؛ لأن الله ذكر هذه الأنباء والقصص التي كانت من قبل في القرآن على اختلاف الألفاظ ، وتغيير الحروف ، على التقديم والتأخير ، والزيادة والنقصان ؛ ليعلم أن المقصود والمراد بذكرها ما فيها ، لا عين اللفظ والحروف ، فإذا عرف ما فيها وفهم جاز الأداء بأي لسان كان ، وبأيّ لفظ كان ، والله أعلم.
وقوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) يحتمل وجوها :
أحدها : أمّا أهل التأويل (١) فإنهم قالوا : كان في لسانه رتة أي : عقدة لما أدخل في فمه من النار ؛ فذلك لا نعلمه ، وقد قال في آية [أخرى] : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٨ ، ٢٩] فيجوز أن يكون ذلك خلقة خلقه هكذا ، على ما خلق بعض الخلق أفصح وأبين من بعض.
أو أن يكون لما ذكر له من الخوف والذنب ما لم يكن ذلك لهارون ، ولا شك من اشتد به الخوف منع صاحبه عن التكلم والبيان ، وذلك متعالم معروف في الناس ، وهو ما قال :
__________________
(١) قاله البغوي (٣ / ٤٤٥).