فليس أنهم لا ينهون ولا يمنعونهم عن ذلك إذا رأوا النهي ينجع فيهم ، وإذا رأوه لا ينجع فيهم ، فعند ذلك أعرضوا عنه ؛ وهو كقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].
وقوله : (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) : يقولون هذا لهم إذا لم ينجع النهي والموعظة ولم يقبلوا ذلك ، عند ذلك يقولون : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، أي : لكم جزاء أعمالكم ولنا جزاء أعمالنا ؛ وكذلك قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] لم يقل هذا لهم في ابتداء الدعاء ، ولكن بعد ما أيس عن إيمانهم وإجابتهم ؛ فعلى ذلك الأوّل.
وقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) : هذا يشبه أن يخرج على وجهين :
أحدهما : على القول منهم بالسلام عليهم ، أي : كانوا لا يخاطبون الجهال ، ولا يخاطبونهم إلا بالسلام خاصة ، بهذا القدر يخالطونهم حسب.
والثاني : ليس على حقيقة قول : السلام عليهم ، ولكن على الصلح وترك المكافأة لهم ، وتركهم إياهم على ما هم عليه ؛ إذ السلام هو الصلح ، والله أعلم.
وقال بعضهم : ردوا عليهم معروفا (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ، يعنون : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه.
وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : ذكر أهل التأويل أن هذا نزل في أبي طالب عم النبي ، وذلك أن أبا طالب قال : يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟!» قال : فقال : ما تريد يا ابن أخي؟ قال : «أريد منك كلمة واحدة في آخر يوم من الدنيا : أن تقول : لا إله إلا الله ؛ أشهد لك بها عند الله» قال : يا ابن أخي ، قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال : جزع عن الموت ، ولو لا أن يكون عليك وعلى بني أبيك وأخيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ؛ لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ فلان وفلان ؛ فأنزل الله ذلك : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(١) ، فهو على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الهدى البيان ،
__________________
(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٥٦) ، كتاب التفسير : باب قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤٧٧٢) ، ومسلم (١ / ٥٤) ، كتاب الإيمان : باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (٣٩ / ٢٤) ، وابن جرير (٢٧٥٢٢) و (٢٧٥٢٣) ، وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن ابن المسيب عن أبيه بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٣).
وأخرجه مسلم (٤١ / ٢٥) ، وأحمد (٢ / ٤٣٤ ، ٤٤١) ، والترمذي (٥ / ٢٥٠) ، في التفسير باب : (من سورة القصص) (٣١٨٨) ، وابن جرير (٢٧٥١٨) ، (٢٧٥٢١) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٣).