ولم يؤتوا أنفسهم شهواتهم وهواها ، والله أعلم.
ثم كان في قوم موسى خصال ثلاث لم تكن تلك ومثلها في غيرهم من الأمم.
أحدها : ما ذكر من صلابة [الذين] أوتوا العلم ، ويقينهم ، وطمأنينتهم فيما وعدوا في الآخرة من الثواب ، وصبرهم على أداء ما افترض الله عليهم ، وحبسوا أنفسهم عن مناهم وشهواتهم ، ولصلابتهم وقوتهم في الدّين ما وعظوا قارون ، حيث قالوا له : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ...) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهو كان يومئذ ملكا ، ولما قالوا لأولئك الذين يريدون الحياة الدنيا : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).
والثاني : ما ذكر سحرة فرعون حين أوعدهم بالقطع والصلب والقتل بإيمانهم الذي آمنوا فقالوا : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٥٠] وقالوا : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] وأمثال ذلك مما لم يبالوا حلول ما أوعدهم وخوفهم من أنواع العذاب.
والثالث : ما ذكر من الذي كان يكتم إيمانه ؛ حيث قال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر : ٢٨] وإنما أظهر ذلك حين قال فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) [غافر : ٢٦] كأنه همّ أن يقتله ؛ ألا ترى أن ذلك الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه قال لهم : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) لم يبال هلاك نفسه بإظهاره الإيمان بعد أن أعان به الله موسى ، ونفع له بما قال ، واستقبل فرعون وقومه بما استقبل.
فهذه خصال لم تذكر عن قوم قط من سوى قوم موسى مثلها.
ولذلك وصفهم ونعتهم بفضل الهداية والعدالة ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].
وهكذا الواجب على كل مؤمن إذا أريد منه أخذ الإيمان ، أو خاف على دينه أن يذهب به ، أو أن يدخل فيه النقصان ألّا يبدّل ذلك ، وإن خاف على نفسه تلفها وهلاكها وتعذيبها بأشدّ ما يكون من العذاب ؛ ألا ترى أن الله مدح أصحاب الأخدود بما احتملوا أشدّ العذاب وأسوأ القتل ، ولم يتركوا الإيمان ، ولم يعطوا أولئك الكفرة ما أرادوا منهم ، فهكذا الاختيار على كل مسلم أن يختار ما اختار أولئك.
وهكذا الواجب على كل من يأتي الأمراء والسلاطين ويحضر مجالسهم من العلماء أن يعظوهم ، ويأمروهم بكل ما يؤتى ، وينهوهم عن كل محذور ، ويدلوهم على كل خير وكل ما هو طاعة لله ، كما فعل قوم قارون بقارون ، وإلا لم يحضروا مجالسهم ولا أتوا