ويقول : آمنت ـ كاذبا ، فجعل الله تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك ، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية [الحج : ١١] ، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء ، و [هو] ما قال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] ، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة ، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه ، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه ، وإنما يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك.
ثم قال بعضهم : نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان ، وأضمروا الخلاف والكذب. وقال بعضهم : نزلت في قوم آمنوا بالله وبرسوله حقيقة ، ثم عذبوا بأنواع العذاب ؛ فتركوا الإيمان وكفروا به ؛ وفيهم نزل : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله ، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته ؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) : [ذكرنا] فيما تقدم أنه يعلم ظاهرا كائنا ما قد علمه غير كائن أنه يكون ، وليعلمه موجودا ما قد علمه غير موجود أنه يوجد ، والله أعلم.
وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) : هذا أيضا يخرج على وجهين :
أحدهما : قد حسب الذين ... ما ذكر. والثاني : لا يحسب ؛ على النهي.
وقوله : (أَنْ يَسْبِقُونا) : لا أحد يقدر أن يسبق الله في عذابه ونقمته ، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها ، ورأوا أيضا عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم ـ ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث ؛ كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ) [ص : ٢٧] حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل ، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء ، والله أعلم.
وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : أضاف اللقاء إلى نفسه ، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [التغابن : ٣] ، وقوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣] ، وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ونحوه ، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها ، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة ، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة ؛ إذ لو لم يكن آخرة ، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعبا باطلا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون :